فصل: فصل في مسألة تكفير أهل البدع والأهواء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصل

إذا ظهرت هذه المقدمات في اسم المؤمن والكافر، والفاسق المِلِّى وفي حكم الوعد والوعيد، والفرق بين المطلق والمعين، وما وقع في / ذلك من الاضطراب، فـ ‏[‏مسألة تكفير أهل البدع والأهواء‏]‏ متفرعة على هذا الأصل‏.‏

ونحن نبدأ بمذهب أئمة السنة فيها قبل التنبيه على الحجة‏.‏ فنقول‏:‏

المشهور من مذهب الإمام أحمد، وعامة أئمة السنة، تكفير الجهمية، وهم المعطلة لصفات الرحمن؛ فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاء به الرسل من الكتاب، وحقيقة قوله جحود الصانع، ففيه جحود الرب، وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسله، ولهذا قال عبد الله بن المبارك‏:‏ إنا لنحكى كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكى كلام الجهمية، وقال غير واحد من الأئمة‏:‏ إنهم أكفر من اليهود والنصارى؛ يعنون من هذه الجهة؛ ولهذا كفروا من يقول‏:‏ إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن الله ليس على العرش، وإن الله ليس له علم، ولا قدرة ولا رحمة، ولا غضب، ونحو ذلك من صفاته‏.‏

وأما المرجئة، فلا تختلف نصوصه أنه لا يكفرهم؛ فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، وكثير من كلامهم يعود النزاع فيه إلى نزاع في الألفاظ والأسماء؛ ولهذا يسمى الكلام في مسائلهم ‏[‏باب الأسماء‏]‏ وهذا من نزاع الفقهاء، لكن يتعلق بأصل / الدين، فكان المنازع فيه مبتدعًا‏.‏

وكذلك الشيعة ـ المفضلون لعليٍّ علَى أبى بكر ـ لا يختلف قوله أنهم لا يكفرون؛ فإن ذلك قول طائفة من الفقهاء أيضًا، وإن كانوا يبدعون‏.‏

وأما القدرية ـ المقرون بالعلم ـ والروافض ـ الذين ليسوا من الغالية، والجهمية، والخوارج ـ فيذكر عنه في تكفيرهم روايتان، هذا حقيقة قوله المطلق مع أن الغالب عليه التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم، والخوارج، مع قوله‏:‏ ما أعلم قومًا شرًا ن الخوارج‏.‏

ثم طائفة من أصحابه يحكون عنه في تكفير أهل البدع مطلقًا روايتين، حتى يجعلوا المرجئة داخلين في ذلك، وليس الأمر كذلك، وعنه في تكفير من لا يكفر روايتان، أصحهما‏:‏ لا يكفر، وربما جعل بعضهم الخلاف في تكفير من لا يكفر مطلقًا، وهو خطأ محض، والجهمية ـ عند كثير من السلف، مثل عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وطائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم ـ ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة، التى افترقت عليها هذه الأمة، بل أصول هذه عند هؤلاء‏:‏ هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية وهذ المأثور / عن أحمد، وهو المأثور عن عامة أئمة السنة، والحديث أنهم كانوا يقولون‏:‏ من قال‏:‏ القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال‏:‏ إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ونحو ذلك‏.‏

ثم حكى أبو نصر السجزى عنهم في هذا قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه كفر ينقل عن الملة‏.‏ قال‏:‏ وهو قول الأكثرين، والثانى‏:‏ أنه كفر لا ينقل؛ ولذلك قال الخطابى‏:‏ إن هذا قالوه علي سبيل التغليظ، وكذلك تنازع المتأخرون من أصحابنا في تخليد المكفر من هؤلاء، فأطلق أكثرهم عليه التخليد، كما نقل ذلك عن طائفة من متقدمى علماء الحديث، كأبى حاتم، وأبى زُرْعَة وغيرهم، وامتنع بعضهم من القول بالتخليد‏.‏

وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة؛ فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم أنهم يرون من الأعيان، الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافرًا، فيتعارض عندهم الدليلان‏.‏

وحقيقة الأمر‏:‏ أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع، كلما رأوهم قالوا‏:‏ من قال كذا فهو كافر، اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق لمعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، / إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة ـ الذين أطلقوا هذه العمومات ـ لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه‏.‏

فإن الإمام أحمد ـ مثلا ـ قد باشر ‏[‏الجهمية‏]‏ الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا الؤمنين والمؤمنات ـ الذين لم يوافقوهم علي التجهم ـ بالضرب والحبس، والقتل والعزل على الولايات، وقطع الأرزاق، ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أيدى العدو، بحيث كان كثير من أولى الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم، يكفرون كل من لم يكن جهميًا موافقًا لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، يحكمون فيه بحكمهم في الكافر، فلا يولونه ولاية، ولا يفتكونه من عدو، ولا يعطونه شيئًا من بيت المال، ولا يقبلون له شهادة، ولا فتيا ولا رواية‏.‏ ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة، والافتكاك من الأسر وغير ذلك‏.‏ فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان ومن كان داعيًا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه‏.‏

ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم؛ فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من /قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب‏.‏

ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذى هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية، الذين كانوا يقولون‏:‏ القرآن مخلوق، وإن الله لايرى في الآخرة‏.‏ وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفّر به قومًا معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان، ففيه نظر أو يحمل الأمر على التفصيل‏.‏ فيقال‏:‏ من كفر بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم‏.‏

والدليل على هذا الأصل‏:‏ الكتاب، والسنة، والإجماع، والاعتبار‏.‏

أما الكتاب، فقوله سبحانه وتعالى‏:‏‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏

/وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن الله ـ تعالى ـ قال‏:‏ ‏(‏قد فعلتُ‏)‏ لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بهذا الدعاء‏.‏ وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من كَنْز تحت العرش‏)‏، ‏(‏إنه لم يقرأ بحرف منها إلا أعطيه‏)‏‏.‏

وإذا ثبت بالكتاب المفسر بالسنة أن الله قد غفر لهذه الأمة الخطأ والنسيان، فهذا عام عمومًا محفوظًا، وليس في الدلالة الشرعية ما يوجب أن الله يعذب من هذه الأمة مخطئًا على خطئه، وإن عذب المخطئ من غير هذه الأمة‏.‏

وأيضًا، فقد ثبت في الصحيح من حديث أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏إن رجلا لم يعمل خيرًا قط فقال لأهله‏:‏ إذا مات فأحرقوه، ثم أذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو قائم بين يديه، ثم قال‏:‏ لم فعلتَ هذا‏؟‏ قال‏:‏ من خشيتك يا رب، وأنت أعلم، فغفر الله له‏)‏‏.‏

/ وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أصحاب الحديث والأسانيد من حديث أبي سعيد، وحذيفة وعقبة بن عمرو، وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنها تفيدهم العلم اليقيني، وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ممن لم يشركهم في أسباب العلم، فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله ـ تعالى ـ على إعادة ابن آدم، بعد ما أحرق وذرى، وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك، وهذان أصلان عظيمان‏:‏

أحدهما‏:‏ متعلق بالله ـ تعالى ـ وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير‏.‏

الثانى‏:‏ متعلق باليوم الآخر وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت، ويجزيه على أعماله، ومع هذا فلما كان مؤمنًا بالله في الجملة، ومؤمنًا باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل عملا صالحًا ـ وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه ـ غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله، واليوم الآخر والعمل الصالح‏.‏

وأيضًا، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان‏)‏ / وفي رواية‏:‏ ‏(‏مثقال دينار من خير، ثم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏مثقال دينار من خير، ثم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏من خير‏)‏ ‏(‏ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ـ أو خير‏)‏ وهذا وأمثاله من النصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، يدل أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان والخير وإن كان قليلا،وأن الإيمان مما يتبعض ويتجزأ‏.‏ ومعلوم ـ قطعًا ـ أن كثيرًا من هؤلاء المخطئين معهم مقدار ما من الإيمان بالله ورسوله؛ إذ الكلام فيمن يكون كذلك‏.‏

وأيضًا، فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل، واتفقوا على عدم التكفير بذلك، مثلما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة، وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه، ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف، وكذلك لبعضهم في قتال بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض، أقوال معروفة‏.‏

وكان القاضي شُرَيْح ينكر قراءة من قرأ‏:‏ ‏{‏بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 12‏]‏، ويقول‏:‏ إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النَّخَعِي‏.‏ فقال‏:‏ إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبد الله أفقه منه، فكان يقول‏:‏ ‏[‏بل عجبتَ‏]‏ فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة، وكذلك بعض السلف أنكر / بعضهم حروف القرآن، مثل إنكار بعضهم قوله‏:‏ ‏{‏ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 31‏]‏، وقال‏:‏ إنما هى‏:‏ أولم يتبين الذين آمنوا، وإنكار الآخر قراءة قوله‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏، وقال‏:‏ إنما هى‏:‏ ووصى ربك‏.‏ وبعضهم كان حذف المعوذتين، وآخر يكتب سورة القنوت، وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر، ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا، وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر‏.‏

وأيضًا، فإن الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحدًا، إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأسًا، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية‏.‏

وذلك مثل قوله تعالى‏:‏‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏165‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 37‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏59‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ‏}‏‏[‏الملك‏:‏ 8، 9‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏134‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 47‏]‏،ونحو هذا في القرآن في مواضع متعددة‏.‏

فمن كان قد آمن بالله ورسوله، ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول، فلم يؤمن به تفصيلا؛ إما أنه لم يسمعه، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذى يعذر به ـ فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله وبرسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه، وما لم يؤمن به فلم تقم عليه به الحجة التى يكفر مخالفها‏.‏

وأيضًا، فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من الخطأ في الدين ما لا يكفر مخالفة، بل ولا يفسق، بل ولا يأثم، مثل الخطأ في الفروع العملية، وإن كان بعض المتكلمة والمتفقهة يعتقد أن المخطئ فيها آثم، وبعض المتكلمة والمتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب، فهذان القولان شاذان، ومع ذلك فلم يقل أحد بتكفير المجتهدين المتنازعين فيها، ومع ذلك فبعض هذه المسائل قد ثبت خطأ المنازع / فيها بالنصوص والإجماع القديم، مثل استحلال بعض السلف والخلف لبعض أنواع الربا، واستحلال آخرين لبعض أنواع الخمر، واستحلال آخرين للقتال في الفتنة‏.‏

وأهل السنة والجماعة متفقون على أن المعروفين بالخير، كالصحابة المعروفين، وغيرهم من أهل الجمل وصِفِّين من الجانبين، لا يفسق أحد منهم، فضلا عن أن يكفر، حتى عدى ذلك من عداه من الفقهاء إلى سائر أهل البغى، فإنهم مع إيجابهم لقتالهم منعوا أن يحكم بفسقهم لأجل التأويل، كما يقول هؤلاء الأئمة‏:‏ إن شارب النبيذ المتنازع فيه متأولا لا يجلد ولا يفسق، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78، 79‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وثبت في الصحاح ـ من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏)‏‏.‏ وثبت في الصحيح عن بُرَيْدة بن الحصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏إذا حاصرت أهل حِصْن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك؛ فإنك لا تدرى ما حكم الله فيهم‏)‏ / وأدلة هذا الأصل كثيرة لها موضع آخر‏.‏

وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من بلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن به فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد، لظهور أدلة الرسالة، وإعلام النبوة؛ ولأن العذر بالخطأ حكم شرعى، فكما أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، والواجبات تنقسم إلى

أركان وواجبات ليست أركانًا، فكذلك الخطأ ينقسم إلى مغفور وغير مغفور، والنصوص إنما أوجبت رفع المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة، وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض هذه المسائل، إما أن يلحق بالكفار، من المشركين وأهل الكتاب مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، وإما أن يلحق بالمخطئين في مسائل الإيجاب والتحريم، مع أنها ـ أيضًا ـ من أصول الإيمان‏.‏

فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، والجاحد لها كافر بالاتفاق، مع أن المجتهد في بعضها ليس بكافر بالاتفاق مع خطئه‏.‏

وإذا كان لابد من إلحاقه بأحد الصنفين، فمعلوم أن المخطئين من المؤمنين بالله ورسوله، أشد شبهًا منه بالمشركين وأهل الكتاب، /فوجب أن يلحق بهم، وعلى هذا مضى عمل الأمة قديمًا وحديثًا، في أن عامة المخطئين من هؤلاء تجرى عليهم أحكام الإسلام التى تجرى على غيرهم، هذا مع العلم بأن كثيرًا من المبتدعة منافقون النفاق الأكبر، وأولئك كفار في الدرك الأسفل من النار، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون، بل أصل هذه البدع هو من المنافقين الزنادقة، ممن يكون أصل زندقته عن الصابئين والمشركين، فهؤلاء كفار في الباطن، ومن علم حاله فهو كافر في الظاهر ـ أيضًا‏.‏

وأصل ضلال هؤلاء الإعراض عما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة، وابتغاء الهدى في خلاف ذلك، فمن كان هذا أصله فهو بعد بلاغ الرسالة كافر لا ريب فيه، مثل من يرى أن الرسالة للعامة دون الخاصة، كما يقوله قوم من المتفلسفة، وغالية المتكلمة والمتصوفة، أو يرى أنه رسول إلى بعض الناس دون بعض، كما يقوله كثير من اليهود والنصارى‏.‏

فهذا الكلام يمهد أصلين عظيمين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول، وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة، أو أنه على العرش، أو أن القرآن كلامه، أو / أنه كلم موسى، أو أنه اتخذ إبراهيم خليلا كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك، وهذا معنى كلام أئمة السنة وأهل الحديث‏.‏

والأصل الثانى‏:‏ أن التكفير العام ـ كالوعيد العام ـ يجب القول بإطلاقه وعمومه‏.‏

وأما الحكم على المعين بأنه كافر، أو مشهود له بالنار، فهذا يقف على الدليل المعين؛ فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه، وانتفاء موانعه‏.‏

ومما ينبغى أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا، إما بقتل أو جلد أو غير ذلك، ويكون في الآخرة غير معذب، مثل قتال البغاة والمتأولين، مع بقائهم على العدالة، ومثل إقامه الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة، فإنا نقيم الحد عليه مع ذلك، كما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك وعلى الغامدية ، مع قوله‏:‏ ‏(‏لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكْسٍ لغفر له‏)‏، ومثل إقامة الحد على من شرب النبيذ المتنازع فيه متأولا، مع العلم بأنه باق على العدالة‏.‏

بخلاف من لا تأويل له، فإنه لما شرب الخمر بعض الصحابة / واعتقدوا أنها تحل للخاصة تأول قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 93‏]‏، اتفق الصحابة مثل عمر بن الخطاب، وعلى بن أبي طالب وغيرهما، على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا‏.‏

وكذلك نعلم أن خلقًا لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة، مثل أهل الذمة المقرين بالجزية على كفرهم، ومثل المنافقين المظهرين الإسلام، فإنهم تجرى عليهم أحكام الإسلام، وهم في الآخرة كافرون، كما دل عليه القرآن في آيات متعددة، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 145‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}

الآية ‏[‏الحديد‏:‏ 13 ـ 15‏]‏‏.‏

وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة، التى هى دار الثواب والعقاب، وأما الدنيا فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع / به الظلم والعدوان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 193‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 42‏]‏، وهذا لأن المقصود بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، هو إقامة القسط، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏

وإذا كان الأمر كذلك فعقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة، ولا بالعكس، ولهذا أكثر السلف يأمرون بقتل الداعى إلى البدعة، الذى يضل الناس لأجل إفساده في الدين، سواء قالوا‏:‏ هو كافر، أو ليس بكافر

وإذا عرف هذا، فتكفير ‏[‏المعين‏]‏ من هؤلاء الجهال وأمثالهم ـ بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار ـ لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحده الحجة الرسالية، التى يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر‏.‏

وهكذا الكلام في تكفير جميع ‏[‏المعينين‏]‏، مع أن بعض هذه / البدعة أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحَجَّة‏.‏

ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة

وهذا الجواب لا يحتمل أكثر من هذا، والله المسؤول أن يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، والله سبحانه أعلم‏.‏

/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في رجل قال‏:‏ إن الله لم يكلم موسى تكليما وإنما خلق الكلام والصوت في الشجرة، وموسى ـ عليه السلام ـ سمع من الشجرة لا من الله، وإن الله ـ عز وجل ـ لم يكلم جبريل بالقرآن وإنما أخذه من اللوح المحفوظ، فهل هو على الصواب أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، ليس هذا على الصواب، بل هذا ضال مفتر كاذب باتفاق سلف الأمة وأئمتها، بل هو كافر يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإذا قال‏:‏ لا أكذب بلفظ القرآن ـ وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏ ـ بل أقر بأن هذا اللفظ حق، لكن أنفي معناه وحقيقته، فإن هؤلاء هم الجهمية الذين اتفق السلف والأئمة على أنهم من شر أهل الأهواء والبدع، حتى أخرجهم كثير من الأئمة عن الثنتين والسبعين فرقة‏.‏

وأول من قال هذه المقالة في الإسلام كان يقال له‏:‏ الجعد بن درهم، / فضَحَّى به خالد بن عبد الله القسرى يوم أضحى؛ فإنه خطب الناس فقال في خطبته‏:‏ ضَحُّوا أيها الناس، تقبل الله ضحاياكم، فإنى مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا، ثم نزل فذبحه‏.‏ وكان ذلك في زمن التابعين فشكروا ذلك، وأخذ هذه المقالة عنه جَهْم بن صفوان، وقتله بخراسان سلمة بن أحوز، وإليه نسبت هذه المقالة التى تسمى ‏[‏مقالة الجهمية‏]‏، وهى نفي صفات الله ـ تعالى ـ فإنهم يقولون‏:‏ إن الله لا يرى في الآخرة، ولا يكلم عباده، وأنه ليس له علم ولا حياة ولا قدرة ونحو ذلك من الصفات، ويقولون‏:‏ القرآن مخلوق‏.‏

ووافق الجهمَ على ذلك المعتزلة ـ أصحاب عمرو بن عبيد ـ وضموا إليها بدعا أخرى في القَدَر وغيره، لكن المعتزلة يقولون‏:‏ إن الله كلم موسى حقيقة وتكلم حقيقة، لكن حقيقة ذلك عندهم أنه خلق كلاما في غيره، إما في شجرة وإما في هواء، وإما في غير ذلك، من غير أن يقوم بذات الله عندهم كلام ولا علم، ولا قدرة ولا رحمة، ولا مشيئة ولا حياة، ولا شيء من الصفات‏.‏

والجهمية تارة يبوحون بحقيقة القول، فيقولون‏:‏ إن الله لم يكلم موسى تكليمًا، ولا يتكلم، وتارة لا يظهرون هذا اللفظ؛ لما فيه من الشناعة المخالفة لدين الإسلام واليهود والنصارى، فيقرون باللفظ، / ولكن يقرنونه بأنه خلق في غيره كلاما‏.‏

وأئمة الدين كلهم متفقون على ما جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة، من أن الله كلم موسى تكليما،وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، كما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن لله علمًا وقدرة ونحو ذلك‏.‏

ونصوص الأئمة في ذلك مشهورة متواترة، حتى إن أبا القاسم الطبرى الحافظ لما ذكر في كتابه في ‏[‏شرح أصول السنة‏]‏ مقالات السلف والأئمة في الأصول، ذكر من قال‏:‏ القرآن كلام الله غير مخلوق‏.‏ وقال‏:‏ فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفسًا أو أكثر من التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة، على اختلاف الأعصار ومضى السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم، وتدينوا بمذاهبهم، ولو اشتغلت بنقل قول أهل الحديث لبلغت أسماؤهم ألوفًا، لكنى اختصرت فنقلت عن هؤلاء عصرًا بعد عصر، لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقله أو نفيه أو صلبه‏.‏ قال‏:‏ ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال‏:‏ القرآن مخلوق جعد بن درهم، في سنى نيف وعشرين ومائة، ثم جهم بن صفوان، فأما جعد فقتله خالد بن عبد الله القسرى، وأما جهم فقتل بمرو في خلافه هشام بن عبد الملك‏.‏

/ وروى بإسناده عن على بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ من وجهين أنهم قالوا له يوم صفين‏:‏ حكَّمت رجلين‏؟‏ فقال‏:‏ ما حكمت مخلوقًا ما حكمت إلا القرآن‏.‏ وعن عكرمة قال‏:‏ كان ابن عباس في جنازة، فلما وضع الميت في لحده قام رجل وقال‏:‏ اللهم رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس فقال‏:‏ مه‏؟‏ ‏!‏ القرآن منه‏.‏ وعن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، وهذا ثابت عن ابن مسعود‏.‏ وعن سفيان بن عيينة قال‏:‏ سمعت عمرو بن دينار يقول‏:‏ أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون‏:‏ القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، وفي لفظ يقولون‏:‏ القرآن كلام الله غير مخلوق وقال حرب الكرماني ‏[‏حرب بن إسماعيل الكرماني، أبو محمد، الفقيه، تلميذ أحمد بن حنبل، رحل وطلب العلم ، قال الخلال‏:‏ ‏[‏كان رجلا جليلا‏]‏، وقال الذهبي‏:‏ ‏[‏ما علمت به بأسا‏]‏، توفي سنة 280 هـ عن عمر يقارب التسعين‏]‏ ‏:‏ ثنا إسحاق بن إبراهيم ـ يعنى ابن راهويه ـ عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، قال‏:‏ أدركت الناس منذ سبعين سنة، أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونهم يقولون‏:‏ الله الخالق وما سواه مخلوق، إلا القرآن فإنه كلام الله، منه خرج وإليه يعود‏.‏

وهذا قد رواه عن ابن عيينة إسحاق، وإسحاق إما أن يكون سمعه منه أو من بعض أصحابه عنه، وعن جعفر بن محمد الصادق ــ وهو مشهور عنه ــ أنهم سألوه عن القرآن‏:‏ أخالق هو أم مخلوق‏؟‏ فقال‏:‏ ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله‏.‏

وهكذا روى عن الحسن البصري، وأيوب السختياني، وسليمان / التيمي، وخلق من التابعين‏.‏ وعن مالك بن أنس، والليث بن سعد وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأمثال هؤلاء من الأئمة‏.‏ وكلام هؤلاء الأئمة وأتباعهم في ذلك كثير مشهور، بل اشتهر عن أئمة السلف تكفير من قال‏:‏ القرآن مخلوق، وأنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كما ذكروا ذلك عن مالك بن أنس وغيره‏.‏

ولذلك قال الشافعي لحفص الفرد ـ وكان من أصحاب ضرار بن عمرو ممن يقول‏:‏ القرآن مخلوق، فلما ناظر الشافعي، وقال له‏:‏ القرآن مخلوق ــ قال له الشافعي‏:‏ كفرت بالله العظيم، ذكره ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية، قال‏:‏ كان في كتابي عن الربيع بن سليمان قال‏:‏ حضرت الشافعي، أو حدثني أبو شعيب، إلا أني أعلم أنه حضر عبد الله ابن عبد الحكم، ويوسف بن عمرو بن يزيد، فسأل حفص عبد الله قال‏:‏ ما تقول في القرآن‏؟‏ فأبي أن يجيبه، فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه، وكلاهما أشار إلى الشافعي، فسأل الشافعي فاحتج عليه وطالت فيه المناظرة، فقام الشافعي بالحجة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وكفر حفصًا الفرد،قال الربيع‏:‏ فلقيت حفصًا في المسجد بعد هذا فقال‏:‏ أراد الشافعي قتلى‏.‏

وأما مالك بن أنس، فنقل عنه من غير وجه الرد على من يقول‏:‏ القرآن مخلوق، واستتابته، وهذا المشهور عنه متفق عليه بين أصحابه‏.‏

/ وأما أبو حنيفة وأصحابه، فقد ذكر أبو جعفر الطحاوي في الاعتقاد الذي قال في أوله‏:‏ ‏[‏ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة‏]‏ - أبى حنيفة النعمان ابن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني ــ قال فيه‏:‏‏[‏وإن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولا، وأنزله على نبيه وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأثبتوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده عذابه وتوعده،حيث قال‏:‏‏{‏سَأُصْلِيهِ سَقَرَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏26‏]‏، فلما أوعد الله سقر لمن قال‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏25‏]‏، علمنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر‏]‏‏.‏

وأما أحمد بن حنبل، فكلامه في مثل هذا مشهور متواتر،وهو الذي اشتهر بمحنة هؤلاء الجهمية؛ فإنهم أظهروا القول بإنكار صفات الله - تعالى - وحقائق أسمائه، وأن القرآن مخلوق ،حتى صار حقيقة قولهم تعطيل الخالق - سبحانه وتعالى - ودعوا الناس إلى ذلك، وعاقبوا من لم يجبهم، إما بالقتل، وإما بقطع الرزق، وإما بالعزل عن الولاية، وإما بالحبس أو بالضرب، وكفروا من خالفهم، فثبت الله - تعالى - الإمام أحمد حتى أخمد الله به باطلهم،ونصر أهل الإيمان والسنة عليهم، وأذلهم بعد العز، وأخملهم بعد الشهرة، واشتهر عند خواص الأمة وعوامها أن القرآن كلام / الله غير مخلوق، وإطلاق القول أن من قال‏:‏ إنه مخلوق، فقد كفر‏.‏

وأما إطلاق القول بأن الله لم يكلم موسى، فهذه مناقضة لنص القرآن، فهو أعظم من القول بأن القرآن مخلوق، وهذا بلا ريب يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإنه أنكر نص القرآن، وبذلك أفتى الأئمة والسلف في مثله، والذي يقول‏:‏ القرآن مخلوق هو في المعنى موافق له، فلذلك كفره السلف‏.‏

قال البخاري في كتاب ‏[‏خلق الأفعال‏]‏‏:‏ قال سفيان الثوري‏:‏ من قال‏:‏ القرآن مخلوق، فهو كافر‏.‏ قال‏:‏ وقال عبد الله بن المبارك‏:‏ من قال‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏14‏]‏ مخلوق، فهو كافر، ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك، قال‏:‏ وقال ابن المبارك‏:‏لا نقول كما قالت الجهمية‏:‏ إنه في الأرض هاهنا،بل على العرش استوى‏.‏ وقيل له‏:‏ كيف نعرف ربنا‏؟‏ قال‏:‏ فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه‏.‏

وقال‏:‏ من قال‏:‏‏[‏لا إله إلا الله‏]‏ مخلوق، فهو كافر، وإنا نحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية‏.‏ قال‏:‏ وقال على بن عاصم‏:‏ ما الذين قالوا‏:‏ إن لله ولدًا أكفر من الذين قالوا‏:‏ إن الله لا يتكلم‏.‏

قـال الـبخـاري‏:‏ وكان إسماعيل بـن أبـي إدريس يسميهم زنادقة العـراق‏.‏ / وقيل لـه‏:‏ سمعت‏:‏ أحدًا يقول‏:‏ القرآن مخلوق فقال‏:‏ هؤلاء الزنادقة‏.‏ قال‏:‏ وقال أبو الوليد سمعت يحيى بن سعيد -وذكر لـه أن قومًا يقولون‏:‏ القرآن مخلوق ـ فقال‏:‏ كيف يصنعون بـ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏1‏]‏ كيف يصنعون بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ وقال أبو عبيد القاسم بن سلام‏:‏ نظرت في كلام اليهود والمجوس فما رأيت قومًا أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم‏.‏ قال‏:‏ وقال سليمان بن داود الهاشمي‏:‏ من قال‏:‏ القرآن مخلوق، فهـو كـافـر، وإن كان القرآن مخلوقًا ـ كما زعموا ـ فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال‏:‏ ‏{‏فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏24‏]‏‏؟‏ وزعموا أن هذا مخلوق، والذي قال‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏14‏]‏ هذا ـ أيضًا ـ قد ادعى ما ادعى فرعـون، فلم صار فرعـــون أولى بأن يخلد في النار من هذا‏؟‏ وكلاهما عنده مخلوق، فأخبر بذلك أبو عبيد، فاستحسنه وأعجبه‏.‏

ومعنى كلام هؤلاء السلف ـ رضي الله عنهم ـ‏:‏ أن من قال‏:‏ إن كلام الله مخلوق خلقه في الشجرة أو غيرها ـ كما قال هذا الجهمي المعتزلي المسؤول عنه ــ كان حقيقة قوله‏:‏ إن الشجرة هي التي قالت لموسى‏:‏ ‏{‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي‏}‏ ومن قال‏:‏ هذا مخلوق، قال ذلك‏.‏ فهذا المخلوق عنده كفرعون الذي قال‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ كلاهما مخلوق، وكلاهما قال ذلك‏.‏ فإن كان قول فرعون كفرًا فقول هؤلاء ـ أيضًا ـ كفر‏.‏

/ ولا ريب أن قول هؤلاء يؤول إلى قول فرعون، وإن كانوا لا يفهمون ذلك؛ فإن فرعون كذب موسى فيما أخبر به؛ من أن ربه هو الأعلى، وأنه كلمه، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا‏}

‏[‏غافر‏:‏36، 37‏]‏ وهو قد كذب موسى في أن الله كلمه‏.‏

ولكن هؤلاء يقولون‏:‏ إذا خلق كلاماً في غيره صار هو المتكلم به، وذلك باطل وضلال من وجوه كثيرة‏:‏

أحدها‏:‏ أن الله ـ سبحانه ـ أنطق الأشياء كلها نطقًا معتادًا ونطقًا خارجًا عن المعتاد، قال تعالى‏:‏‏{‏الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏65‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏20، 21‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏24‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏18‏]‏، وقد ثبت أن الحصي كان يسبح في يد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الحجر كان يسلم عليه، وأمثال ذلك من إنطاق الجمادات، فلو كان إذا خلق كلاما في غيره كان هو المتكلم به، كان هذا كله كلام الله ـ تعالى ـ ويكون قد كلم من سمع هذا الكلام كما كلم موسى ابن عمران،بل قد ثبت أن الله خالق / أفعال العباد‏.‏ فكل ناطق فالله خالق نطقه وكلامه، فلو كان متكلما بما خلقه من الكلام لكان كل كلام في الوجود كلامه حتى كلام إبليس والكفار وغيرهم‏.‏ وهذا تقوله غلاة الجهمية كابن عربي وأمثاله يقولون‏:‏

وكل كلام في الوجود كلامه**سواء علينا نثره ونظامه

وهكذا أشباه هؤلاء من غلاة المشبهة الذين يقولون‏:‏ إن كلام الآدميين غير مخلوق، فإن كل واحدة من الطائفتين يجعلون كلام المخلوق بمنزلة كلام الخالق، فأولئك يجعلون الجميع مخلوقا، وأن الجميع كلام الله،وهؤلاء يجعلون الجميع كلام الله وهو غير مخلوق؛ ولهذا كان قد حصل اتصال بين شيخ الجهمية الحلولية وشيخ المشبهة الحلولية‏.‏

وبسبب هذه البدع وأمثالها من المنكرات المخالفة لدين الإسلام، سلط الله أعداء الدين،فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ‏}‏‏[‏الحج‏:‏40، 41‏]‏، وأي معروف أعظم من الإيمان بالله وأسمائه وآياته‏؟‏ وأي منكر أعظم من الإلحاد في أسماء الله وآياته‏؟‏

الوجه الثاني‏:‏ أن يقال لهؤلاء الضالين‏:‏ ما خلقه الله في غيره / من الكلام وسائر الصفات فإنما يعود حكمه على ذلك المحل لا على غيره فإذا خلق الله في بعض الأجسام حركة أو طعما أو لونًا أو ريحًا، كان ذلك الجسم هو المتحرك المتلون المتروح المطعوم، وإذا خلق بمحل حياة أو علمًا أو قدرة أو إرادة أو كلاما، كان ذلك المحل هو الحي العالم القادر المريد المتكلم، فإذا خلق كلاما في الشجرة أو في غيرها من الأجسام، كان ذلك الجسم هو المتكلم بذلك الكلام، كما لو خلق فيه إرادة أو حياة أو علما،ولا يكون الله هو المتكلم به، كما إذا خلق فيه حياة أو قدرة أو سمعًا أو بصرًا، كان ذلك المحل هو الحي به والقادر به والسميع به والبصير به‏.‏ فكما أنه -سبحانه - لا يجوز أن يكون متصفًا بما خلقه من الصفات المشروطة بالحياة وغير المشروطة بالحياة، فلا يكون هو المتحرك بما خلقه في غيره من الحركات، ولا المصوت بما خلقه في غيره من الأصوات، ولا سمعه ولا بصره وقدرته ما خلقه في غيره من السمع والبصر والقدرة، فكذلك لا يكون كلامه ما خلقه في غيره من الكلام ولا يكون متكلمًا بذلك الكلام‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن الاسم المشتق من معنى لا يتحقق بدون ذلك المعنى، فاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وأفعال التفضيل يمتـنع ثبوت معناها دون معنى المصدر التي هي مشتقة منه، والناس / متفقون على أنه لا يكون متحرك ولا متكلم إلا بحركة وكلام، فلا يكون مـريد إلا بإرادة، وكــذلك لا يكـون عــالم إلا بعلم ولا قادر إلا بقدرة ونحو ذلك‏.‏

ثم هذه الأسماء المشتقة من المصدر إنما يسمى بها من قام به مسمى المصدر، فإنما يسمى بالحي من قامت به الحياة ،وبالمتحرك من قامت به الحركة، وبالعالم من قام به العلم، وبالقادر من قامت به القدرة، فأما من لم يقم به مسمى المصدر فيمتنع أن يسمى باسم الفاعل ونحوه من الصفات‏.‏ وهذا معلوم بالاعتبار في جميع النظائر‏.‏

وذلك لأن اسم الفاعل ونحوه من المشتقات هو مركب يدل على الذات وعلى الصفة، والمركب يمتنع تحققه بدون تحقق مفرداته، وهذا كما أنه ثابت في الأسماء المشتقة فكذلك في الأفعال‏:‏ مثل تكلم وكلم ويتكلم ويكلم وعلم ويعلم وسمع ويسمع ورأى ويرى ونحو ذلك سواء قيل‏:‏ إن الفعل المشتق من المصدر، أو المصدر مشتق من الفعل، لا نزاع بين الناس أن فاعل الفعل هو فاعل المصدر‏.‏ فإذا قيل‏:‏ كلم أو علم أو تكلم أو تعلم، ففاعل التكليم والتعليم هو المكلم والمعلم، وكذلك التعلم والتكلم، والفاعل هو الذي قام به المصدر الذي هو التكليم والتعليم والتكلم والتعلم، فإذا قيل‏:‏ تكلم فلان أو كلم فلان فلانًا، ففلان هو المتكلم والمكلم، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏164‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏253‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏143‏]‏، يقتضى أن الله هو المكلم، فكما يمتنع أن يقال‏:‏ هو متكلم بكلام قائم بغيره، يمتنع أن يقال‏:‏ كلم بكلام قائم بغيره‏.‏ فهذه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يلزم الجهمية على قولهم أن يكون كل كلام خلقه الله كلامًا له؛ إذ لا معنى لكون القرآن كــلام الله إلا كونه خلقه، وكـل من فعل كلاما ولو في غيره كـان متكلمًا به عندهـم،وليس للكــلام عندهم مدلول يقوم بذات الرب ـ تعالى ـ لو كان مدلول ‏[‏قائمًا‏]‏ يدل لكونه خلق صوتًا في محل والدليل يجب طرده، فيجب أن يكون كل صوت يخلقه له كذلك، وهـم يجوزون أن يكون الصوت المخلوق على جميع الصفات، فلا يبقى فرق بـين الصوت الذي هو كلام الله ـ تعالى ـ على قولهم والصوت الذي هو ليس بكلام‏.‏

الثاني‏:‏ أن الصفة إذا قامت بمحل كالعلم والقدرة والكلام والحركة عاد حكمها إلى ذلك المحل ولا يعود حكمها إلى غيره‏.‏

الثالث‏:‏ أن يشتق منه المصدر واسم الفاعل والصفة المشبهة به / ونحو ذلك ولا يشتق ذلك لغيره، وهذا كله بين ظاهر وهو ما يبين قول السلف والأئمة أن من قال‏:‏ إن الله خلق كلامًا في غيره لزمه أن يكون حكم التكلم عائدًا إلى ذلك المحل لا إلى الله‏.‏

الرابع‏:‏ أن الله أكد تكليم موسى بالمصدر فقال‏:‏ ‏{‏تَكْلِيمًا‏}‏‏.‏ قال غير واحد من العلماء‏:‏ التوكيد بالمصدر ينفي المجاز، لئلا يظن أنه أرسل إليه رسولا أو كتب إليه كتابًا، بل كلمه منه إليه‏.‏

والخامس‏:‏ أن الله فضل موسى بتكليمه إياه على غيره ممن لم يكلمه وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا‏}‏ الآية ‏[‏الشورى‏:‏51‏]‏، فكان تكليم موسى من وراء الحجاب، وقال‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏144‏]‏، وقال‏:‏‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏163، 164‏]‏، والوحي هو ما نزله الله على قلوب الأنبياء بلا واسطة، فلو كان تكليمه لموسى إنما هو صوت خلقه في الهواء لكان وحى الأنبياء أفضل منه؛ لأن أولئك عرفوا المعنى المقصود بلا واسطة‏.‏ وموسى إنما عرفه بواسطة؛ ولهذا كان غلاة الجهمية من الاتحادية ونحوهم يدعون أن ما يحصل لهم من الإلهام أفضل مما حصل لموسى بن عمران، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين‏.‏

/ولما فهم السلف حقيقة مذهب هؤلاء، وأنه يقتضي تعطيل الرسالة، فإن الرسل إنما بعثوا ليبلغوا كلام الله، بل يقتضى تعطيل التوحيد، فإن من لا يتكلم ولا يقوم به علم ولا حياة هو كالموات، بل من لا تقوم به الصفات فهو عدم محض؛ إذ ذات لا صفة لها إنما يمكن تقديرها في الذهن لا في الخارج، كتقدير وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص‏.‏

فكان قول هؤلاء مضاهيًا لقول‏:‏ ‏[‏المتفلسفة الدهرية‏]‏، الذين يجعلون وجود الرب وجودًا مطلقًا بشرط الإطلاق لا صفة له‏.‏ وقد علم أن المطلق بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الذهن‏.‏ وهؤلاء الدهرية ينكرون‏:‏ أيضًا ـ حقيقة تكليمه لموسى ويقولون‏:‏ إنما هو فيض فاض عليه من العقل الفعال، وهكذا يقولون في الوحي إلى جميع الأنبياء، وحقيقة قولهم‏:‏ إن القرآن قول البشر، لكنه صدر عن نفس صافية شريفة‏.‏ وإذا كانت المعتزلة خيرًا من هؤلاء، وقد كفر السلف من يقول بقولهم، فكيف هؤلاء‏؟‏‏!‏‏.‏

وكلام السلف والأئمة في مثل هؤلاء لا يحصى‏.‏ قال حرب بن إسماعيل الكرماني‏:‏ سمعت إسحاق بن راهويه يقول‏:‏ ليس بين أهل العلم اختلاف أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وكيف يكون شيء من الرب ـ عز ذكره ـ مخلوقاً، ولو كان كما قالوا لزمهم أن يقولوا‏:‏علم الله وقدرته ومشيئته مخلوقة، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يقولوا‏:‏ كان الله ـ /تبارك اسمه ـ ولا علم ولا قدرة ولا مشيئة،وهو الكفر المحض الواضح، لم يزل الله عالمًا متكلمًا له المشيئة والقدرة في خلقه، والقرآن كلام الله وليس بمخلوق، فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر‏.‏

وقال وَكِيع بن الجراح‏:‏ من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئًا من الله مخلوق‏.‏ فقيل له‏:‏ من أين قلت هذا‏؟‏ قال‏:‏ لأن الله يقول‏:‏‏{‏وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏13‏]‏، ولا يكون من الله شيء مخلوق‏.‏ وهذا القول قاله غير واحد من السلف‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ كلام الله من الله ليس ببائن منه، وهذا معنى قول السلف‏:‏ القرآن كلام الله، منه بدأ،ومنه خرج، وإليه يعود كما في الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن جبير بن نفير قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏[‏إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه‏]‏ يعني‏:‏ القرآن، وقد روى أيضًا عن أبي أمامة مرفوعًا‏.‏ وقال أبوبكر الصديق لأصحاب مسيلمة الكذاب ـ لما سمع قرآن مسيلمة ـ‏:‏ ويحكم ‏!‏ أين يذهب بعقولكم‏؟‏ إن هذا كلامًا لم يخرج من إل‏.‏ أي‏:‏ من رب‏.‏

وليس معنى قول السلف والأئمة‏:‏ إنه منه خرج ومنه بدأ‏:‏ أنه فارق ذاته وحل بغيره، فإن كلام المخلوق إذا تكلم به لا يفارق ذاته / ويحل بغيره، فكيف يكون كلام الله‏؟‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏5‏]‏، فقد أخبر أن الكلمة تخرج من أفواههم، ومع هذا فلم تفارق ذاتهم‏.‏

وأيضًا، فالصفة لا تفارق الموصوف وتحل بغيره، لا صفة الخالق ولا صفة المخلوق، والناس إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم بلغوه عنه كان الكلام الذي بلغوه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغوه بحركاتهم وأصواتهم‏.‏ فالقرآن أولى بذلك، فالكلام كلام الباري والصوت صوت القارئ، قال تعالى‏:‏‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏6‏]‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏‏.‏

ولكن مقصود السلف الرد على هؤلاء الجهمية؛ فإنهم زعموا أن القرآن خلقه الله في غيره، فيكون قد ابتدأ وخرج من ذلك المحل الذي خلق فيه لا من الله،كما يقولون‏:‏ كلامه لموسى خرج من الشجرة، فبين السلف والأئمة أن القرآن من الله بدأ وخرج، وذكروا قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏13‏]‏ فأخبر أن القول منه لا من غيره من المخلوقات‏.‏

و‏[‏من‏]‏ هي لابتداء الغاية، فإن كان المجرور بها عينا يقوم بنفسه لم / يكن صفة لله، كقوله‏:‏‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏13‏]‏، وقوله في المسيح‏:‏‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏171‏]‏، وكذلك ما يقوم بالأعيان كقوله‏:‏‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏53‏]‏‏.‏

وأما إذا كان المجرور بها صفة ولم يذكر لها محل كان صفة الله، كقوله‏:‏‏{‏وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏13‏]‏، وكذلك قد أخبر في غير موضع من القرآن أن القرآن نزل منه، وأنه نزل به جبريل منه، ردًا على هذا المبتدع المفترى وأمثاله ممن يقول‏:‏ إنه لم ينزل منه، قال تعالى‏:‏‏{‏أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏114‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏102‏]‏، وروح القدس هو جبريل،كما قال في الآية الأخرى‏:‏‏{‏نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏193، 194‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏97‏]‏، وقال هنا‏:‏ ‏{‏نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏102‏]‏، فبين أن جبريل نزله من الله، لا من هواء، ولا من لوح، ولا غير ذلك، وكذلك سائر آيات القرآن كقوله‏:‏‏{‏تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏1‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}

‏[‏غافر‏:‏1، 2‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏‏[‏فصلت‏:‏1، 2‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏[‏السجدة‏:‏1، 2‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏67‏]‏‏.‏

/ فقد بين ـ في غير موضع ـ أنه منزل من الله، فمن قال‏:‏ إنه منزل من بعض المخلوقات ـ كاللوح والهواء ـ فهو مفتر على الله،مكذب لكتاب الله‏.‏ متبع لغير سبيل المؤمنين‏.‏ ألا ترى أن الله فرق بين ما نزل منه ومـا نزله من بعض المخـلوقات كـالمطر بأن قال‏:‏ ‏{‏أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏17‏]‏‏؟‏ فـذكر المطر في غير موضع،وأخبر أنه نزله من السماء، والقرآن أخبر أنه منزل منه، وأخبر بتنزيل مطلق في مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ لأن الحديد ينزل من رؤوس الجبال لا ينزل من السماء، وكذلك الحيوان؛ فإن الذكر ينزل الماء في الإناث، فلم يقل فيه من السماء، ولو كان جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ لكان اليهود أكرم على الله من أمة محمد؛ لأنه قد ثبت بالنقل الصحيح‏:‏ أن الله كتب لموسى التوراة بيده وأنزلها مكتوبة، فيكون بنو إسرائيل قد قرؤوا الألواح التي كتبها الله، وأما المسلمون فأخذوه عن محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد أخذه عن جبريل، وجبريل عن اللوح، فيكون بنو إسرائيل بمنزلة جبريل، وتكون منزلة بني إسرائيل أرفع من منزلة محمد صلى الله عليه وسلم على قول هؤلاء الجهمية، والله ـ سبحانه ـ جعل من فضائل أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه أنزل عليهم كتابا لا يغسله الماء، وأنه أنزله عليهم تلاوة لا كتابة، وفرقه عليهم لأجل ذلك‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏106‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏32‏]‏‏.‏

/ ثم إن كان جبريل لم يسمعه من الله وإنما وجده مكتوبًا، كانت العبارة عبارة جبريل، وكان القرآن كلام جبريل، ترجم به عن الله، كما يترجم عن الأخرس الذي كتب كلامًا ولم يقدر أن يتكلم به، وهذا خلاف دين المسلمين‏.‏

وإن احتج محتج بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ‏}‏‏[‏التكوير‏:‏19، 20‏]‏، قيل له‏:‏ فقد قال في الآية الأخرى‏:‏‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏40ـ42‏]‏، فالرسول في هذه الآية محمد صلى الله عليه وسلم، والرسول في الأخرى جبريل، فلو أريد به أن الرسول أحدث عبارته لتناقض الخبران‏.‏ فعلم أنه أضافه إليه إضافة تبليغ لا إضافة إحداث؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لَقَوْلُ رَسُولٍ‏}‏ ولم يقل‏:‏ ملك ولا نبي، ولا ريب أن الرسول بلغه، كما قال تعالى‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏67‏]‏، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في الموسم ويقول‏:‏ ‏(‏ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي؛ فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي‏؟‏‏)‏، ولما أنزل الله‏:‏ ‏{‏الم غُلِبَتِ الرُّومُ‏}‏‏[‏الروم‏:‏1، 2‏]‏، خرج أبو بكر الصديق فقرأها على الناس، فقالوا‏:‏ هذا كلامك أم كلام صاحبك‏؟‏ فقال‏:‏ ليس بكلامي ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله‏.‏

وإن احتج بقوله‏:‏‏{‏مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏2‏]‏، قيل له‏:‏ / هذه الآية حجة عليك، فإنه لما قال‏:‏‏{‏مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ‏}‏ علم أن الذكر منه محدث ومنه ما ليس بمحدث؛ لأن النكرة إذا وصفت ميز بها بين الموصوف وغيره، كما لو قال‏:‏ ما يأتيني من رجل مسلم إلا أكرمته، وما آكل إلا طعامًا حلالا ونحو ذلك، ويعلم أن المحدث في الآية ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمي، ولكنه الذي أنزل جديدًا؛ فإن الله كان ينزل القرآن شيئًا بعد شيء، فالمنزل أولاً هو قديم بالنسبة إلى المنزل آخرًا، وكـل ما تقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب، كما قال‏:‏ ‏{‏وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏39‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏95‏]‏ وقال‏:‏‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏11‏]‏ وقال‏:‏‏{‏قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏75، 76‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏3‏]‏ لم يقل‏:‏ جعلناه فقط، حتى يظن أنه بمعنى خلقناه، ولكن قال‏:‏‏{‏جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏}‏ أي‏:‏ صيرناه عربيًا؛ لأنه قد كان قادرًا على أن ينزله عجميًا، فلما أنزله عربيا كان قد جعله عربيًا دون عجمي‏.‏ وهذه المسألة من أصول أهل الإيمان والسنة التي فارقوا بها الجهمية من المعتزلة والفلاسفة ونحوهم، والكلام عليها مبسوط في غير هذا الموضع، والله أعلم‏.‏